سورة الحجر - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحجر)


        


القائل هنا إبراهيم عليه السلام، وقوله: {فما خطبكم} سؤال فيه عنف، كما تقول لمن تنكر حاله: ما دهاك وما مصيبتك؟ وأنت إنما تريد استفهاماً عن حاله فقط. لأن الخطب لفظة إنما تستعمل في الأمور الشداد، على أن قول إبراهيم عليه السلام {أيها المرسلون} وكونهم أيضاً قد بشروه يقتضي أنه قد كان عرف أنهم ملائكة حين قال: {فما خطبكم}، فيحتمل قوله {فما خطبكم} مع هذا أنه أضاف الخطب إليهم من حيث هم حملته إلى يوم المعذبين أي ما هذا الخطب الذي تتحملونه وإلى أي أمة. و{لقوم مجرمين} يراد به أهل مدينة سدوم الذين بعث فيهم لوط عليه السلام، والمجرم الذي يجر الجرائر ويرتكب المحظورات، وأصل جرم وأجرم كسب، ومنه قول الشاعر: [الوافر]
جريمة ناهض في رأس نيق *** أي كسب عقاب في قنة شامخ، ولكن اللفظة خصّت في عرفها بالشر، لا يقال لكاسب الأجر مجرم، وقولهم {إلا آل} استثناء منقطع، والأول القوم الذين يؤول أمرهم إلى المضاف إليه، كذا قال سيبويه، وهذا نص في أن لفظة {آل} ليست لفظة أهل كما قال النحاس، ويجوز على هذا إضافة {آل} إلى الضمير، وأما أهيل فتصغير أهل، واجتزوا به عن تصغير آل، فرفضوا {أويلاً} وقرأ جمهور السبعة {لمُنجُّوهم} وقرأ حمزة والكسائي {لمنْجُوهم} بسكون النون وضم الجيم مخففة، والضمير في {لمنجوهم} في موضع خفض بالإضافة، وانحذفت النون للمعاقبة، هذا قول جمهور النحويين، وقال الأخفش الضمير في موضع نصب وانحذفت النون لأنه لا بد من اتصال هذا الضمير.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا نظر، وقوله {إلا امرأته} استثناء بعد استثناء وهما منقطعان فيما حكى بعض النحاة لأنهم لم يجعلوا امرأته الكافرة من آله.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا نظر، لأنها قبل الاستثناء داخلة في اللفظ الذي هو الأول، وليس كذلك الأول مع المجرمين، فيظهر الاستثناء الأول منقطعاً والثاني متصلاً، والاستثناء بعد الاستثناء يرد المستثنى الثاني في حكم أمر الأول، ومثل بعض الناس في هذا بقولك: لي عندك مائة درهم إلا عشرة دراهم إلا درهمين، فرجعت الدرهمان في حكم التسعين الدرهم، وقال المبرد: ليس هذا المثال بجيد، لأنه من خلق الكلام ورثه إذ له طريق إلى أداء المعنى المقصود بأجمل من هذا التخليق، وهو أن يقول لي عندك مائة إلا ثمانية، وإنما ينبغي أن يكون مثالاً للآية قولك: ضربت بني تميم إلا بني دارم إلا حاجباً، لأن حاجباً من بني دارم فلما كان المستثنى الأول في ضمنه ما لا يجري الحكم عليه، والضرورة تدخله في لفظه ولا يمكنك العبارة عنه دون ذلك يجري الحكم عليهم اضطررت إلى استثناء ثان.
قال القاضي أبو محمد: ونزعة المبرد في هذا نبيلة، وقرأ جميعهم سوى عاصم في رواية أبي بكر {قدّرنا} بتشديد الدال في كل القرآن، وقرأ عاصم {قدَرنا} بتخفيفها، ونقل في رواية حفص، والتخفيف يكون بمعنى التثقيل كما قال الهذلي أبو ذؤيب: [الطويل]
ومفرهة عنس قدرت لساقها *** فخرت كما تتابع الريح بالقفل
يريد قدرت ضربي لساقها، وكقول النبي عليه السلام في الاستخارة: «واقدر لي الخير حيث كان»، ويكون أيضاً بمعنى سن ووفق ومنه قول الشاعر: [يزيد بن مفرغ]
بقندهار ومن تقدير منيته *** يرجع دونه الخبر
وكسرت الألف من {إنها} بسبب اللام التي في قوله {لمن} والغابر الباقي في الدهر وغيره، وقالت فرقة منهم النحاس: هو من الأضداد، يقال في الماضي وفي الباقي، وأما في هذه الآية فهي للبقاء أي من الغابرين في العذاب، وقوله تعالى: {فلما جاء آل لوط المرسلون} الآيات، تقدم القول وذكر القصص في أمر لوط وصورة لقاء الرسل له، وقيل إن الرسل كانوا ثلاثة، جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وقيل كانوا اثني عشر وقوله {منكرون} أي لا يعرفون في هذا القطر، وفي هذه اللفظة تحذير وهو من نمط ذمه لقومه وجريه إلى أن لا ينزل هؤلاء القوم في تلك المدينة خوفاً منه أن يظهر سوء فعلهم وطلبهم الفواحش، فقالت الرسل للوط بل جئناك بما وعدك الله من تعذيبهم على كفرهم ومعاصيهم، وهو الذي كانوا يشكون فيه ولا يحققونه، وقرأت فرقة {فاسر} بوصل الألف، وقرأت فرقة {فأسر} بقطع الألف، يقال سرى وأسرى بمعنى، إذا سار ليلاً، وقال النابغة: [البسيط]
أسرت عليه من الجوزاء سارية ***
فجمع بين اللغتين في بيت، وقرأ اليماني {فيسر بأهلك}، وهذا الأمر بالسرى هو عند الله تعالى، أي يقال لك، والقطع الجزء من الليل، وقرأت فرقة {بقطَع} بفتح الطاء حكاه منذر بن سعيد. وقوله: {واتبع أدبارهم} أي كن خلفهم وفي ساقتهم حتى لا يبقى منهم أحد ولا يتلوى، و{حيث} في مشهورها ظرف مكان، وقالت فرقة أمر لوط أن يسير إلى زغر، وقيل: إلى موضع نجاة غير معروف عندنا، وقالت فرقة: {حيث} قد تكون ظرف زمان، وأنشد أبو علي في هذا بيت طرفة: [المديد]
للفتى عقل يعيش به *** حيث تهدي ساقه قدمه
كأنه قال مدة مشيه وتنقله، وهذه الآية من حيث أمر أن يسري {بقطع من الليل} ثم قيل له {حيث تؤمر}. ونحن لا نجد في الآية أمراً له لا في قوله {بقطع من الليل} أمكن أن تكون {حيث} ظرف زمان، و{يلتفت} مأخوذ من الالتفات الذي هو نظر العين، قال مجاهد: المعنى لا ينظر أحد وراءه.
قال القاضي أبو محمد: ونهوا عن النظر مخافة العقلنة وتعلق النفس بمن خلف، وقيل بل لئلا تتفطر قلوبهم من معاينة ما جرى على القرية في رفعها وطرحها. وقيل {يلتفت} معناه يتلوى من قولك لفت الأمر إذا لويته، ومنه قولهم للعصيدة لفيتة لأنها تلوى، بعضها على بعض.


المعنى {وقضينا ذلك الأمر} أي أمضيناه وختمنا به، ثم أدخل في الكلام {إليه} من حيث أوحى ذلك إليه وأعلمه الله به فجلب هذا المعنى بإيجاز وحذف ما يدل الظاهر عليه و{أن} في موضع نصب، قال الأخفش: هي بدل من {ذلك}، وقال الفراء: بل التقدير بأن دابر فحذف حرف الجر، والأول أصوب، والدابر الذي يأتي آخر القوم أي في أدبارهم، وإذا قطع ذلك وأتى عليه فقد أتى العذاب من أولهم إلى آخرهم، وهذه ألفاظ دالة على الاستئصال والهلاك التام، يقال قطع الله دابره واستأصل شأفته وأسكت نأمته بمعنى. و{مصبحين} معناه إذا أصبحوا ودخلوا في الصباح، وقوله {وجاء أهل المدينة}، يحتمل أن رجع الوصف أمر جرى قبل إعلام لوط بهلاك أمته، ويدل على هذا أن محاجة لوط لقومه تقتضي ضعف من لم يعلم إهلاكهم، وأن الأضياف ملائكة، ويحتمل قوله {وجاء أهل المدينة} أن يكون بعد علمه بهلاكهم، وكان قوله ما يأتي من المحاورة على جهة التهكم عنهم والإملاء لهم والتربص بهم.
قال القاضي أبو محمد: والاحتمال الأول عندي أرجح، وهو الظاهر من آيات غير هذه السورة، وقوله {يستبشرون} أي بالأضياف طمعاً منهم في الفاحشة، والضيف مصدر وصف به، فهو يقع للواحد والجميع والمذكر والمؤنث، وقولهم {أو لم ننهك عن العالمين} روي أنهم قد تقدموا إليه في أن لا يضيف أحداً ولا يجيره، لأنهم لا يراعونه ولا يكتفون عن طلب الفاحشة فيه، وقرأ الأعمش {إن دابر} بكسر الهمزة وروي أن في قراءة عبد الله {وقضينا إليه ذلك الأمر وقلنا إن دابر هؤلاء مقطوع}، وذكر السدي أنهم إنما كانوا يفعلون الفاحشة مع الغرباء ولا يفعلونها بعضهم ببعض، فكانوا يعترضون الطرق، وقول لوط عليه السلام {هؤلاء بناتي} اختلف في تأويله، فقيل أراد نساء أمته لأن زوجات النبيين أمهات الأمم وهو أبوهم فالنساء بناته في الحرمة والمراد بالتزويج، ويلزم هذا التأويل أن يكون في شرعه جواز زواج الكافر للمؤمنة، وقد ورد أن المؤمنات به قليل جداً، وقيل إنما أراد بنات صلبه ودعا إلى التزويج أيضاً قاله قتادة ويلزم هذا التأويل أيضاً ما لزم المتقدم في ترتيبنا.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن يريد بقوله عليه السلام هؤلاء بناتي بنات صلبه، ويكون ذلك على طريق المجاز، وهو لا يحقق في إباحة بناته وهذا كما تقول لإنسان تراه يريد قتل آخر اقتلني ولا تقتله فإنما ذلك على جهة التشنيع عليه والاستنزال من جهة ما واستدعاء الحياء منه، وهذا كله من مبالغة القول الذي لا يدخله معنى الكذب بل الغرض منه مفهوم، وعليه قول النبي عليه السلام «ولو كمفحص قطاة»، إلى غير هذا من الأمثلة والعَمر والعُمر بفتح العين وضمها واحد، وهما مدة الحياة، ولا يستعمل في القسم إلا بالفتح، وفي هذه الآية شرف لمحمد عليه السلام لأن الله تعالى أقسم بحياته ولم يفعل ذلك مع بشر سواه، قاله ابن عباس.
قال القاضي أبو محمد: والقسم ب {لعمرك} في القرآن، وب لعمري ونحوه في أشعار العرب وفصيح كلامها في غير موضع.
كقوله: [الطويل]
لعمري وما عمري عليَّ بهين ***
وقوله الآخر: [الوافر]
لعمر أبيك ما نسب المعالي ***
وكقول الآخر: [طرفة بن العبد] [الطويل]
لعمرك إن الموت ما أخطأَ الفتى *** لكالطِّوَلِ المرخى وثنياه باليد
والعرب تقول لعمر الله، ومنه قول الشاعر:
إذا رضيت عليَّ بنو قشير *** لعمر الله أعجبني رضاها
وقال الأعشى: [الكامل]
ولعمر من جعل الشهور علامة *** فيها فبين نصفها وكمالها
ويروى وهلالها، وقال بعض أصحاب المعاني، لا يجوز هذا لأنه لا يقال لله تعالى عمر، وإنما يقال بقاء أزلي ذكره الزهراوي، وكره إبراهيم النخعي أن يقول الرجل لعمري لأنه حلف بحياة نفسه، وذلك من كلام ضعفة الرجال، ونحو هذا، قول مالك في لعمري ولعمرك أنها ليست بيمين، وقال ابن حبيب ينبغي أن تصرف {لعمرك} في الكلام اقتداء بهذه الآية، و{يعمهون} يرتبكون ويتحيرون، والضمائر في {سكرتهم} يراد بها قوم لوط المذكورون، وذكر الطبري أن المراد قريش، وهذا بعيد لأنه ينقطع مما قبله ومما بعده، وقوله {لفي سكرتهم} مجاز وتشبيه، أي في ضلالتهم وغفلتهم وإعراضهم عن الحق ولهوهم، و{يعمهون} معناه يتردون في حيرتهم، و{مشرقين} معناه قد دخلوا في الإشراق وهو سطوع ضوء الشمس وظهوره قاله ابن زيد.
قال القاضي أبو محمد: وهذه الصيحة هي صيحة الوجبة وليست كصيحة ثمود، وأهلكوا بعد الفجر مصبحين واستوفاهم الهلاك مشرقين، وخبر قوله {لعمرك} محذوف تقديره لعمرك قسمي أو يميني، وفي هذا نظر، وقرأ ابن عباس و{عمرك}، وقرأ الأشهب العقيلي {لفي سُكرتهم} بضم السين، وقرأ ابن أبي عبلة {لفي سكراتهم}، وقرأ الأعمش {لفي سكرهم} بغير تاء، وقرأ أبو عمرو في رواية الجهضمي {أنهم في سكرتهم} بفتح الألف، وروي في معنى قوله {جعلنا عاليها سافلها} أن جبريل عليه السلام اقتلع المدينة بجناحيه ورفعها حتى سمعت ملائكة السماء صراخ الديكة ونباح الكلاب ثم قلبها وأرسل الكل، فمن سقط عليه شيء من جرم المدينة مات، ومن أفلت منهم أصابته {حجارة من سجيل}، و{سجيل} اسم من الدنيا، وقيل لفظة فارسية، وهي الحجارة المطبوخة من الطين كالآجر ونحوه، وقد تقدم القول في هذا و{المتوسمون} قال مجاهد المتفرسون، وقال الضحاك الناظرون، وقال قتادة المعتبرون، وقيل غير هذا مما هو قريب منه، وهذا كله تفسير بالمعنى، وأما تفسير اللفظة فإن المعاني التي تكون في الإنسان وغيره من خير أو شر يلوح عليه وسم عن تلك المعاني، كالسكون والدماثة واقتصاد الهيئة التي تكون عن الخير ونحو هذا، فالمتوسم هو الذي ينظر في وسم المعنى فيستدل به على المعنى، وكأن معصية هؤلاء أبقت من العذاب والإهلاك وسماً، فمن رأى الوسم استدل على المعصية به واقتاده النظر إلى تجنب المعاصي لئلا ينزل به ما نزل بهم، ومن الشعر في هذه اللفظة قول الشاعر: [الطويل]
توسمته لما رأيت مهابة *** عليه وقلت المرء من آل هاشم
وقال آخر:
فظللت فيها واقفاً أتوسم ***
وقال آخر:
إني توسمت فيك الخير نافلة ***
والضمير في قوله {وإنها} يحتمل أن يعود على المدينة المهلكة؛ أي أنها في طريق ظاهر بين للمعتبر، وهذا تأويل مجاهد وقتادة وابن زيد، ويحتمل أن يعود على الآيات، ويحتمل أن يعود على الحجارة، ويقوي هذا التأويل ما روي أن النبي عليه السلام قال: «إن حجارة العذاب معلقة بين السماء والأرض منذ ألفي سنة لعصاة أمتي»، وقوله {الآية} أي أمارة وعلامة كما تقول آية ما بيني وبينك كذا وكذا.


{الأيكة} الغيضة والشجر الملتف المخضر يكون السدر وغيره، قال قتادة، وروي أن أيكة هؤلاء كانت من شجر الدوم، وقيل من المقل، وقيل من السدر، وكان هؤلاء قوماً يسكنون غيضة ويرتفقون بها في معايشهم فبعث الله إليهم شعيباً فكفروا فسلط الله عليهم الحر فدام عليهم سبعة أيام ثم رأوا سحابة فخرجوا فاستظلوا تحتها فاضطرمت عليهم ناراً، وحكى الطبري قال: بعث شعيب إلى أمتين كفرتا فعذبتا بعذابين مختلفين: أهل مدين عذبوا بالصيحة، و{أصحاب الأيكة}، ولم يختلف القراء في هذا الموضع في إدخال الألف واللام على أيكة، وأكثرهم همز ألف أيكة بعد اللام، وروي عن بعضهم أنه سهلها ونقل حركتها إلى اللام فقرأ {أصحاب الأيكة} دون همز، واختلفوا في سورة الشعراء وفي صورة ص، و{إن} هي المخففة من الثقيلة على مذهب البصريين، وقال الفراء {إن} بمعنى ما، واللام في قوله {لظالمين} بمعنى إلا. قال أبو علي: الأيك جمع أيكة كترة وتمر.
قال القاضي أبو محمد: ومن الشاهد على اللفظة قول أمية بن أبي الصلت:
كبكاء الحمام على غصون الأي *** ك في الطير الجوانح
ومنه قول جرير: [الوافر]
وقفت بها فهاج الشوق مني *** حمام الأيك يسعدها حمام
ومنه قول الآخر:
ألا إنما الدنيا غضارة أيكة *** إذا اخضرَّ منها جانب جف جانب
ومنه قول الهذلي:
موشحة بالطرتين دنا لها *** جنا أيكةٍ تضفو عليها قصارها
وأنشد الأصمعي: [البسيط]
وما خليج من المروت ذو حدب *** يرمي الصعيد بخشب الأيك والضال
والضمير في قوله {وإنهما} يحتمل أن يعود على المدينتين اللتين تقدم ذكرهما: مدينة قوم لوط، ومدينة أصحاب الأيكة، ويحتمل أن يعود للنبيين: على لوط وشعيب، أي أنهما على طريق من الله وشرع مبين. والإمام في كلام العرب الشيء الذي يهتدي به ويؤتم، يقولونه لخيط البناء، وقد يكون الطريق، وقد يكون الكتاب المفيد، وقد يكون القياس الذي يعمل عليه الصناع، وقد يكون الرجل المقتدى به، ونحو هذا، ومن رأى عود الضمير في {إنهما} على المدينتين قال الإمام الطريق، وقيل على ذلك الإمام الكتاب الذي سبق فيه إهلاكهما، و{أصحاب الحجر} هم ثمود، وقد تقدم قصصهم، و{الحجر} مدينتهم، وهي ما بين المدينة وتبوك، وقال {المرسلين} من حيث يجب بتكذيب رسول واحد تكذيب الجميع، إذ القول في المعتقدات واحد للرسل أجمع، فهذه العبارة أشنع على المكذبين، والآية التي آتاهم الله في الناقة وما اشتملت عليه من خرق العادة حسبما تقدم تفسيره وبسطه، وقرأ أبو حيوة {وآتيناهم آيتنا} مفردة، وقوله تعالى: {وكانوا ينحتون} الآية، يصف قوم صالح بشدة النظر للدنيا والتكسب منها فذكر من ذلك مثالاً أن بيوتهم كانوا ينحتونها من حجر الجبال، والنحت النقر بالمعاول ونحوها في الحجارة والعود ونحوه، وقرأ جمهور الناس {ينحِتون} بكسر الحاء، وقرأ الحسن {ينحَتون} بفتحها، وذلك لأجل حرف الحلق، وهي قراءة أبي حيوة، وقوله {آمنين} قيل معناه من انهدامها، وقيل من حوادث الدنيا، وقيل من الموت لاغترارهم بطول الأعمال.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله ضعيف، وأصح ما يظهر في ذلك أنهم كانوا يأمنون عواقب الآخرة. فكانوا لا يعملون بحسبها، بل كانوا يعملون بحسب الأمن منها، ومعنى {مصبحين} أي عند دخولهم في الصباح، وذكر أن ذلك كان يوم سبت، وقد تقدم قصص عذابهم وميعادهم وتغير ألوانهم، ولم تغن عنهم شدة نظرهم للدنيا وتكسبهم شيئاً، ولا دفع عذاب الله، و{ما} الأولى تحتمل النفي وتحتمل التقرير، والثانية مصدرية، وقوله تعالى: {وما خلقنا السماوات والأرض} الآية، المراد أن هؤلاء المكتسبين للدنيا الذين لم يغن عنهم اكتسابهم ليسوا في شيء، فإن السماوات والأرض وجميع الأشياء لم تخلق عبثاً ولا سدى، ولا لتكون طاعة الله كما فعل هؤلاء ونظراؤهم، وإنما خلقت بالحق ولواجب مراد وأغراض لها نهايات من عذاب أو تنعيم {وإن الساعة لآتية} على جميع أمور الدنيا، أي فلا تهتم يا محمد بأعمال قومك فإن الجزاء لهم بالمرصاد، {فاصفح} عن أعمالهم، أي ولِّها صفحة عنقك بالإعراض عنها، وأكد الصفح بنعت الجمال إذ المراد منه أن يكون لا عتب فيه ولا تعرض.
وهذه الآية تقتضي مداهنة، ونسخها في آية السيف قالة قتادة، ثم تلا في آخر الآية بأن الله تعالى يخلق من شاء لما شاء ويعلم تعالى وجه الحكمة في ذلك لا هذه الأوثان التي يعبدونها، وقرأ جمهور الناس {الخلاق}، وقرأ الأعمش والجحدري {الخالق}.

1 | 2 | 3 | 4 | 5